التخطي إلى المحتوى
محتويات
[toc]


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف المرسلين
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين

اما بعد


تعدّدت المقامات الدالة على اصطفاء الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في منزلته ومكانته ، وفي خصائصه وفضائله ، وفي شمائله وصفاته ، واليوم نقف مع أعلى تلك المقامات وأرفعها ، وهو مقام عبوديته صلى الله عليه وسلم لله جلّ وعلا .



ومما يدلّ على عظم ذلك المقام ، وكون النبي صلى الله عليه وسلم في أعلى مراتبه ، وصف الله تعالى لنبيه بالعبودية في مواطن التحدّي والمعجزة ، قال تعالى : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } ( البقرة : 23 ) ، وفي التشريف بالإسراء يقول الله عزوجل : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله } ( الإسراء : 1 ) ، وعند ذكر نزول القرآن يقول الله : { هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور } ( الحديد : 9 ) ، وفي مقام الدعوة يقول الله : { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا } ( الجن : 19 ) .



بل كانت عبوديّته عليه الصلاة والسلام أكمل من عبودية من قبله من الأنبياء ، فهو خير العابدين لله سبحانه وتعالى ، وسيرته العطرة ، توضح ذلك وتبينه خير بيان، وبذلك استحقّ شرف الوسيلة والشفاعة يوم القيامة دون من سواه .



ورحلة النبي صلى الله عليه وسلم مع العبودية بدأت مبكرا حينما كان يمضي إلى غار حراء يتحنث فيها الليالي العديدة ، مستجيبا لكوامن النفس ودوافع الفطرة ، في تعظيم الخالق سبحانه وتعالى ومناجاته ، وقد أجاد الشاعر حين قال :

ولقد تفرّغ للعبادة قبل أن ….. يُؤمر بها في شامخ الصخرات

وغدا يناجي ربّه ويريد منـه ….. هداية للخير والحسنــات

حتى استجاب له الإله وجاءه …… جبريل بالبشـرى وبالآيات

وببعثته صلى الله عليه وسلم صارت عبوديّته لربّه أكثر شمولا وتنوّعا ، فلم تقتصر على مجرّد الشعائر التعبدية الظاهرة المعروفة ، بل امتدّت لتشمل كل ما يحبّه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة .




فصلاته بين يدي ربه هي العجب العجاب ، إذ كانت صلاته تفيض بأنوار السكينة والطمأنينة ، في مناجاة للخالق وتذللٍ بين يديه ، على نحوٍ يجلّ عن المثيل والنظير ، حتى صارت الصلاة أنيسه وقرّة عينه : ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) ، وغدت دواءً لأحزانه وكربه : ” كان إذا حزبه أمر صلّى “.



ولعل خير من يصوّر لنا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، عوف بن مالك رضي الله عنه ، حينما قال : ” قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأ واستاك وتوضأ ، وقام فصلى ، فاستفتح بالبقرة ، لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل ، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ . ثم ركع فمكث راكعاً بقدر قيامه ، يقول في ركوعه : سبحان ذى الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ، ثم سجد بقدر ركوعه يقول في سجوده: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ، ثم قرأ آل عمران ثم سورة ، ففعل مثل ذلك ” .


وهذا المغيرة بن شعبة يصف لنا اجتهاده في ذلك فيقول: ( قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى ورمت قدماه ) ، وقد أُثر عنه قيامه الليل كلّه بآية من القرآن الكريم ، ويطيل بالقراءة أحيانا أخرى ، فإذا سُئل عن ذلك كان يقول : ( أفلا أكون عبدا شكورا ؟ ) .



وفيما يتعلّق بصيامه عليه الصلاة والسلام ، قالت زوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ، ويفطر حتى نقول لا يصوم ، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان ، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان ) متفق عليه واللفظ للبخاري ، وأشارت روايات أخرى أنه كان يُكثر من صيام الإثنين والخميس وثلاثة أيام من غرّة كل شهر .



ومن العبادات التي كان يداوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، عبادة الاعتكاف في المسجد ، إذ كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان ، يمكث فيه للصلاة وقراءة القرآن وتقوية الصلة بالله عز وجل ، والتفرغ لذلك ، فقد ذكرت عائشة رضي الله عنها ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، حتى توفاه الله ، ثم اعتكف أزواجه من بعده ) متفق عليه واللفظ للبخاري .



أما في مجال الصدقة ، والمبادرة إليها ، والمسارعة نحوها ، فقد كان صلى الله عليه وسلم صاحب عبادة عظيمة ، ومسارعة عجيبة ، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ، يُرشد لذلك تلك الحادثة التي يرويها الصحابي الجليل عقبة بن الحارث رضي الله عنه ، حيث قال: ( صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر ، فلما سلم قام سريعاً ، فدخل على بعض نسائه ، ثم خرج ورأى ما في وجوه القوم من تعجبهم لسرعته ، فقال ذكرت وأنا في الصلاة تبراً- أي ذهباً- عندنا ، فكرهت أن يمسي أو يبيت عندنا ، فأمرت بقسمته ) رواه البخاري .



وفي ذكره لله عزوجل خير أسوة لنا ، فقد كان صلى الله عليه وسلم دائم الذكر لربّه في مختلف الأحوال وجميع الأوقات ، فكان يذكره في قيامه وقعوده ، وأفراحه وأحزانه ، وطعامه وشرابه ، وصباحه ومسائه ، حتى إن العلماء قديماً وحديثاً عنوا بجمع ما كان يقوله عليه الصلاة والسلام من أوراد وأذكار مختلفة .



أما عبادته صلى الله عليه وسلم القلبية ، والتي يقصد بها الأعمال التي ترتبط بالقلب ارتباطاً مباشراً من محبةٍ لله وتوكّل عليه ، وخوف منه ورجاء له ، ورضاء بقضائه وقدره ، وغيرها من أفعال القلوب ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ في تلك الأحوال أعلى الدرجات ، شأنه في ذلك شأن من سبقه من الأنبياء ، فنلمس توكّله على الله عزوجل في قصة هجرته وقوله لأبي بكر : ( ما ظنك باثنين ، الله ثالثهما ؟ ) ، ونلمس بوضوح محبّته لربه في قوله عن المطر : ( إنه حديث عهد بربه ) .



وأما خشيته لله وخوفه منه ، فتظهران من خلال ما نجده من رقّة قلبه وسرعة دمعته ، وخشوع طرفه وانكسار قلبه عند ذكره لله عزوجل ووقوفه بين يدي مولاه ، كما وصفه أبو مطرف قائلاً : ” أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء ” ، فكان بذلك أنموذجاً تحتذي به نفوس الصالحين .



لقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم كلها عبادة ، وكذلك كانت وفاته ، حتى كان أعظم وأكمل من من حقّق قوله تعالى : { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين } ( الأنعام : 162) ، فهنيئا لمن سلك سبيل العبودية ، واقتدى فيه بأكمل الخلق صلى الله عليه وسلم.

التعليقات

Leave a Reply

Your email address will not be published.